مات أبي .

مات أبي
مات أبي ..
مات من كان يعدني بالعودة ..
مات أبي ومات معه الحلم الوردي والفستان الوردي والخطوات الوردية على جسر العودة .
مات أبي .. مات أبي قبل أن يضع نقطة النهاية لسطور الاغتراب .. قبل أن يصبح الاغتراب صفحة مطوية في دفتر مذكراته .. مات والاغتراب هو كل ما تبقى في ذاكرته .. وكل ما ورثته عنه أنا .
مات أبي .. مات بعيداً عن أفياء تلك الياسمينة التي كان كل ضحى يجلس في أفيائها .. يسبح لله ويسجد ويبتهل في الدعاء ويعنون لنا أوراق المستقبل ثم يضع لنا أقدامنا الصغيرة على تلك الطريق .. قبل أن تبعثرها وتبعثرنا معها الأيام .
مات أبي قبل أن يتجه كعادته كل يوم إلى رحاب المسجد الأقصى يقبّله بين عينيه .. ثم يمطره بالصلوات والابتهالات والتسابيح .. ويفتح ذاكرة السنين لأحبة ودعوا الحياة ورحلوا من هناك .. رحلوا من رحابه الطاهرة .
مات أبي ولم يعلمني في هذه الحياة سوى التقرب إلى الله والإصرار على العودة .. ولم أعرف في حياتي غيرهما .. لكن بعد أن مات أبي عرفت غيرهما .. عرفت الموت .
عرفت أن يستقبلني سرير أبي فارغاً منه .. وأشياؤه تنتظر كما هي .. تبكي لمساته الأخيرة .. وتلك الساعة القديمة التي كان يضبط عقاربها طوال الوقت كي يبقى على اتصال مع الزمن .. ومسبحته التي بقيت مستلقية في الجوار من وسادته دون أن تلمسها أصابعه الطاهرة .. دون أن يلتقطها الصغار ويعبثون في حباتها بشقاوة الأطفال ثم يعيدونها إلى كفة يده وهو يبادلهم الابتسامات .. ودمى الصغيرة ابنة الجيران التي كانت كل صباح تطرق الباب وتركض إلى سريره وتضع دميتها إلى جوار رأسه على ذات الوسادة ..
عادت ..
لتجد الوسادة فارغة ..
والسرير فارغ ..
والحياة فارغة .. فارغة جداً ..
عندها فقط عرفتُ ما يسمى بالموت .
***
بمناسبة مرور أربعين يوم على وفاة أبي رحمه الله وجعل مثواه الجنة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

حروف متمردة

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة