بنكهة الزيتون في الذكرى الرابعة عشر لرحيل أمي

 بنكهة الزيتون

في الذكرى الرابعة عشر لرحيل أمي 
ليس صعبًا عليَّ أن أفتتح حديثًا معك يا أمي؛ فأنت في حضورك وفي الغياب تبقى نوافذك مشرعة للحب والكلام، تبقى أذنيك منصتة، حواسك متيقظة، تمرُّين بيد شفافة على الألم فيمحى، تلثمين الدموع قبل أن تسقط أرضًا وتفقد هويتها، تحتضنين كل هذا الأنين دون أن يكون هنالك شبر من جسد، تكونين كل الوطن حتى لو أصبحت حفنة من الرمل.
لم أشك يومًا بأن رسائلي إليك تصل؛ فالحبل السري الذي يربطنا لم ينقطع بهذا الرحيل؛ بل بقيَّ نورًا سرمديًا يلف الأماكن والأزمنة إن اشتد الظلام حلكة أو تاهت منها بعض الدروب.لم أوافيك بالأخبار كعادتي القديمة؛ فالأخبار ثقيلة جدًا تكاد لا تحملها الشواهق
 والجبال... لكننا راسخون كالقلاع يا أم، صامدون بوجه الريح والأعاصير... لكنها البراكين والزلازل غدرت بكل المواثيق والعهود، تنفجر في حليب الرضع وعكازات الجدود، تندلع نيرانها فتلتهم كل ما في الخيام من جلد ووتد، ومع ذلك فالأرض تحت أقدامنا صلبة ترفض أن تنفلق، والصخر ناشف يتشبث بنا بكلتا يديه ويحتضننا برفق، والسماء تمد إلينا أيادي الرحمة؛ تطبطب على فلذات أكبادنا، تلثم جراحنا، وتعدنا برياض الأفق.
لم يتخلَ عنا أحد... فقط من كان أصلًا ليس منا! لذا لم نندهش؛ فلدينا من الجذور ما يكفي لتعبئة الفراغ، وملء الهواء، وشحذ الهمم، لدينا أبجدية مختلفة، رصينة، متجذرة في العمق... ليست بالهشة فتكسر، ولا باللينة فتعصر، أبجديتنا مرنة... لا تهاب تقلبات الزمن، تنثني أمام الزوابع لكنها كالسنابل لا تنحني إلا من فرط الثقل؛ لذلك نحن باقون، نستنشق هواء النار، نحيا بلا مطر، نستيقظ بلا شمس، نتأوه دون أنين، نحن باقون، نلتحف الأرض ونعانق الزيتون.
الرحمة لك يا أم، ولكل شهداء الوطن، وما تبقى من الوطن. 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

من خاطرتي بين شفتي الكلام

بوابات الانتظار