كفوا عن الملامة
كفوا عن الملامة
كفوا عن الملامة فأنا متعبة؛ تأكلني بلا هوادة علامات التعجب والاستنكار، تلوكني في فمها علامات الاستفهام، تمضغني بين أنيابها دهرًا من الزمان، ثم ترميني بلا شفقة حطبًا وأعواد ثقاب إلى مواقد الانتظار.
لا تبعثروا سلال العتاب كيفما شاء ووقتما شاء، لا تلقوا بها بوجه الريح؛ فالرياح عاتية بالخارج... هذه الرياح غريبة عنا؛ فقد تخون، قد تغدر، قد تبعثرنا على حبال غريبة وأسطح غير صديقة، قد تقرأ رسائل الأحبة عنوة وتفضح لحظات الانتظار! فلا تطيلوا الملامة والعتاب.
تتساءلون عن سرِّ هذا الغياب، عن طوله، قسوته، مرارته؟! أتظنون أن قلبي لا يتمزق عليكم وأنتم تطلقون صفارات النداء؟ أنا يا رفاق لم أكف ثانية عن الدعاء بأن يلهمكم الله الصبر، ويمنحكم القوة؛ فتتوقفوا عن ممارسة هذا الانتظار العبثي!
أنتم لا تدرون كم هو مؤلم هذا الانتظار، وكم هو موجع الشعور بالعجز عن تلبية النداء؛ فلا تحدثوني بخبث عن الوفاء فأنا لا أزال لهذه اللحظة أقف شامخة على أسواره؛ أبحلق بتلك الصور التي قصفت أغصانها وبعثرت أزهارها، ألملم منها صدى ضحكات كادت أن تختنق من نقص الهوا، أنا أحاول دون أن تدرون أن ألملم هذا الفضاء!
هذا الفضاء المتآكل قلبه، المبتورة أطرافه... أحاول في كل ثانية لملمته في حجري؛ غاب البعض منهم وراء الهم واليتم والأوجاع، والبعض أغلق نوافذه على القهر والحزن، ومنهم من استنفد كل طاقته من الصبر والأمل، وأنا وحدي أركض في عتمة الليل؛ أفتح هذه النوافذ، أحمل بعضًا من الأكسجين المحرم دوليًا، ألملم ما بعثرته الأيام، أرسم على حائط الانتظار بألوان الطفولة الممزقة ابتسامة مجروحة... ثم أرحل قبل أن تدري بي عيون الشمس؛ فتفضح وقع خطاي على تلك الأزقة، ويكتشفون سر السندريلا التي تفرُ عند منتصف الليل!
أنا تلك السندريلا التي أمضوا عمرًا في البحث عن فردة حذائها الضائع _كي تصل للنهاية السعيدة_ هي التي تركض كل ليلة؛ لتمسح غبار الحرب عن سطح الأفق، تزرع ورود الأمل على وسائد المساء، تسكب ضحكاتها في فناجين الشاي الحار على جدران الصقيع، وتفرّ قبل أن تلاحقها شموع الفجر وتكتب نهاية أخرى قد تكون الأكثر حزنًا على مر العصور.
هذه هي سندريلا الحاضر فلا تقسوا في اللوم والعتاب؛ فقد تعبت من الجري خلف الحدود، تعبت من التقاط الشظايا من الأجساد المدمية، من نزع الرصاص من قلوب ماتت... ولكنها تصرُّ على العودة إلى الحياة.
اليوم حين ودعني أحدكم... للمرة الألف يودعني، كنت قد أرسلت إليه نور شمعة وابتسامة، لم أقصد أن أوقظ العمر الفائت في قلبه؛ كنت أريده أن يستعد جيدًا للمعركة؛ فالحرب قادمة لا محالة، أريد أن أمنحه بعضًا من أحلام وأمنيات النصر، أن أرسم شارة النصر على جبهته كي تغمره الفرحة حين يصافحها في مرآة الصباح!
هم الآن قد ماتوا... ولكنهم لا يكفون عن إرسال أكاليل الوداع! وأنا بقلبي المتعب، وفكري المثخن بآلاف علامات الاستفهام لا أكف عن الدوران بنفس المكان، أسبح في فلكهم، أرقيهم بالمعوذات، أحصنهم بآيات القرآن، أكثف من الدعاء بأن يفتح إليهم أي باب... فماذا يفيد كل هذا اللوم والعتاب وكل الطرق إليهم محاصرة، وكل الأبواب موصدة إلا باب السماء؟!
تعليقات
إرسال تعليق