حديث خاص


حديث خاص

عندما دعاني صديقي قبل ألف دهر من الزمن لمشاركته قهوته الصباحية فرحت جدًا؛ لأن هناك من يشاطرني عشق القهوة ومواقيت القهوة، سألته بدلال: أي قهوة تفضل؟ أجابني بنبرة لا تخلو من السخرية والحسرة بذات الوقت: أنا لا تهمني القهوة، ما يهمني هو: أي مشروب ساخن يدفئ الروح بهذا الصقيع القاتل! استغربت جوابه هذا... لكني اليوم، بعد ألف دهر بالضبط من ذلك اللقاء، وأنا أعدُّ قهوة الصباح، شعرت بأن ما أريده فقط هو أي مشروب ساخن يدفئ الروح بهذا الصقيع القاتل... مع أن درجة الحرارة  بلغت الخمسين!

صديقي كان يعود مكتئبًا بعد كل زيارة يقوم بها إلى دياره وأهله، ويأخذ وقتًا لا بأس به وهو معكتف؛ يحاول أن يعود إلى نفسه... هكذا كان حالي أنا بالضبط ولكني لم أخبره؛ لأنني أصلًا لم أكن أدرك ماهية هذا الشعور وقتها، لكن بعد أن أصبحت عجوزًا كصديقي  بدأت أفهم ما الذي يدخلني في حالة الكآبة تلك!

فيما مضى كنت أقوم بزيارة دورية للديار، والأهل، والأحبة، أمكث قدرًا من الزمن ثم أعود إلى صومعتي؛ لأعتكف فيها فترة من الزمن؛ أتخلص فيها من كآبتي وحزني على مفارقة الأهل، والديار، وأنا! نعم أنا، فلقد أكتشفت أنني في كل زيارة أذهب لأرى نفسي التي تركتها هناك بين الأهل، والأحبة، وفي أرض الديار، وعندما أودع أودع نفسي، وأتركها بينهم دون أن يلحظوا أنها هناك. ولكن مع مرور الزمن كبرنا، وتغيرنا، ونسينا كثيرًا من التفاصيل، وتجاوزنا عن الكثير... إلا نفسي فلقد بقيت كماهي مشرقة، محبة للحياة، عاطفية، تقتات على مخزون كبير من الذكريات، لا تزال تبكي كلما سمعت نشيد الصباح المدرسي، وتنتظر مسلسل الساعة الثامنة مساء بفارغ الصبر قبل أن تخلد للنوم ولاستقبال الأحلام. نفسي هذه صعبت عليَّ كثيرًا، يوجعني فراقها جدًا، ويوجعني أكثر لقائي بها؛ فقررت أن أتركها هناك... ولا أذهب لزيارتها!

هل أصبحت كصديقي العجوز الذي لم يعد يكترث لمذاق القهوة، والذي اعتكف منذ آخر كآبة حلت به بعد عودته من الديار، والذي أصبح يعيش في درجة حرارة دون الخمسين ولا يشكو أو يتألم  أو يحس بالصقيع؟

هل آخذ صديقي العجوز ونذهب بزيارة خاطفة إلى الديار نجلب فيها أنفسنا من هناك، ربما استطعنا أن نجد في مذاق القهوة ذلك العشق المنسي خلف تلال الذكريات.

تعليقات

  1. فيما مضى كنت أقوم بزيارة دورية للديار، والأهل، والأحبة، أمكث قدرًا من الزمن ثم أعود إلى صومعتي؛ لأعتكف فيها فترة من الزمن؛ أتخلص فيها من كآبتي وحزني على مفارقة الأهل، والديار، وأنا! نعم أنا، فلقد أكتشفت أنني في كل زيارة أذهب لأرى نفسي التي تركتها هناك بين الأهل، والأحبة، وفي أرض الديار، وعندما أودع أودع نفسي، وأتركها بينهم دون أن يلحظوا أنها هناك. ولكن مع مرور الزمن كبرنا، وتغيرنا، ونسينا كثيرًا من التفاصيل، وتجاوزنا عن الكثير... إلا نفسي فلقد بقيت كماهي مشرقة، محبة للحياة، عاطفية، تقتات على مخزون كبير من الذكريات، لا تزال تبكي كلما سمعت نشيد الصباح المدرسي، وتنتظر مسلسل الساعة الثامنة مساء بفارغ الصبر قبل أن تخلد للنوم ولاستقبال الأحلام. نفسي هذه صعبت عليَّ كثيرًا، يوجعني فراقها جدًا، ويوجعني أكثر لقائي بها؛ فقررت أن أتركها هناك... ولا أذهب لزيارتها!

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

حروف متمردة

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة