دهاليز الكتابة



دهاليز الكتابة
ليس غريبًا أن أعتزل الكتابة؛ فالكتابة ليست حروفًا ترص فوق السطور، ليست حروفًا منمقة أو مصففة بعناية كعقد جميل تتزين به صدور العذارى؛ الكتابة روح تحلق في الفضاء، تهبط في القلوب، تنتشر كرذاذ العطر، ثم تعود لتحلق من جديد.
الكتابة طير جميل، عصفور أو يمامة لا يهم؛ طالما أنه حرٌ طليقٌ، ليس مقيدًا، ليس مربوطًا إلى شجرة أو مصلوبًا على جدار، ليس مكمم الفيه أو مكسور الجناح.
أحب أن أبدأ نهاري بتصفح الجريدة، أبحث فيها مطولًا كمن يبحث عن مفقوداته... وفي أي ركن اتخذت لها متكئًا ومعتكفًا؟! الجريدة اليوم أصبحت حروفًا مرصوصة، منمقة، مصففة، خالية من أي روح! تلك الروح التي كنت أقفز من خلالها إلى دهاليز الكاتب فأراه حزينًا، حالمًا، عاشقًا، جامحًا، منافقًا! الحروف اليوم لا تشي بشيء، لا تروي لي الحكايات التي كنت أحب أن أسمعها حين أتصفح الجريدة، لا تسعف شغفي بقصيدة تعبر القارات دون استئذان، لا تلملم شتاتي المبعثر في خيام ورقية وترفعه بعيدًا عن عبث الأيادي والأفكار.
أريد أن أكتب، نعم، ولكنِّي لا أريده أن يكون نصًا مشوهًا، مشلولًا، مضطربًا، تائهًا لا يعرف أين يضع قدميه، أو كيف يلتقط أنفاسه، أويثبت أعواد خيمته ويستقر!
أريد أن ألد نصًا سليمًا، معافى، يضحك، يبكي، يرقص، يزحف، يقف على قدميه، يلتقط حجرًا ويقذفه بعين من اغتصب بلادي ورمى بي إلى أرصفة الشتات.
أريد أن أكتب، نعم، لكنِّي أريدها روحًا، طيرًا، غصن زيتون، سنبلة قمح، وليست سلسلة مشعة، تخطف الأبصار، تتصدر الصحف، يصفق لها الجميع، تنهال عليها بصمات الإعجاب؛ فتصبح #ترند!

أريده فقط نصًا يخرج من قلبي فيغرد في قلوب الآخرين، نصًا يشبهني، يبكي لبكائي، يفرح لفرحي، يطبطب على كتفي عند كل خيبة أمل، وليس نصًا هشًا تتساقط حروفه كأوراق الخريف الجافة؛ فتدوسها الأقدام، ويكنسها المارة بنعالهم، ثم يلقى بها إلى صناديق القمامة بعد أن كانت لوهلة براقة وتتصدر عناوين الصحف.
أريد أن ألد نصًا يبني جسرًا بيني وبين تلك البلاد؛ أعبر إليها متى أشاء وتعبرني هي وقت تشاء، وسماء صافية تظلل هذا العبور بكفين من سلام، أعبرها كما كنت أعبر الجريدة وأبقى في دهاليزها إلى أن تعود إلىَّ تلك البلاد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

حروف متمردة

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة