أيلول مهلًا

أيلول مهلًا

لا تستعجل الرحيل يا أيلول فلم يئن الأوان، لا يزال أمامنا بعض الوقت؛ كي نعيد ترتيب النقاط فوق الحروف، محو بعض الهوامش، إضافة عدد آخر من السطور، رسم غيمة كبيرة حبلى بأمطار الأمل تحتل رأس الصفحة الأولى في صحيفة الحياة.

لا يزال هناك بعض الوقت يفرُّ هاربًا من ساعة الحائط يدعونا: كي نرسم بعض النوارس البيضاء، ونرسلها إلى تلك السماء الملبدة بالهم والحزن. لا بدّ يا أيلول من غرس الفرشاة جيدًا في علبة الألوان، وطلاء هذا الفراغ الأسود بلون الفرح؛ فيراه الأطفال في مناماتهم غدٌ آخر، أجمل، أبهى، أنقى، وأطهر من الآن.

وأنا يا أيلول، هل نسيتني؟ أنا لم أحصل على نصيبي منك، انشغلت عنك بلملمة الجراح؛ فكل ما حولي ينزف، وكل القلوب تئن تحت وطأة الجراح!

لم نلتقِ يا أيلول في هذا اللقاء، ولم تشرب قهوتك من فنجاني ولم أشربها _كما اعتدت _من عينيك؛ لأن عيناك ما حملت إليَّ في هذا اللقاء إلا الحزن والسواد... ومع ذلك فلا يزال هناك بعض الوقت، ورائحة القهوة تتمرد على رائحة الدمار، وأنا أصرُّ على أن أزيح عن صدري كل غيوم الحزن كي أراك، وأرى ما يخبئه لنا القدر وما يكتمه عنا من أسرار.

لن أقول كعادتي حين أمازحك قبل الوداع: أرى في قعر فنجانك صبية شقراء تلوح بيدها، وتنتظرك بلهفة أمام الباب! سأكف عن المزاح في ساعات الوداع، وسأحاول أن ألملم الوقت الباقي لأكون برفقتك إلى آخر المشوار.

أرى غيمة كبرى هربت من تحت إبطك... أرجو ألا تغمرك دموعها في آخر هذا اللقاء، وتنسى أنني لم ألتقك كما كنت أتمنى أن يكون هذا اللقاء: لا بكيتُ على كتفك، ولا ضمتني عيناك وقرأتُ إليهما الطالع، ولا رسمت لهما قلبًا ينتظر بلهفة على حواف الفنجان، وقلبي أيضًا قد لا يسامحك؛ لأنه لم يعد يطيق صبرًا في البعاد!

وعليك أن تترك لي غيمة تظللني إن حاولت أشعة الشمس أن تحرقني في الغياب، وأن تبقى تدور حول نافذتي، لا تغيب عن شرفات قلبي؛ حتى لا أشعر بقسوة الوحدة وطول البعاد.

أصبحت مؤخرًا تطيل الغياب، هذا اللقاء لم نلتقِ كأحباب وعشاق، لم تجمعنا صباحاتك الغائمة؛ لأن الشمس الغيورة كانت خلف الباب؛ تسكب غيظها وقهرها في كل الأوقات؛ فاحتل الحزن سماءك، والقهر كان يهطل من عينيك زخات، ومع ذلك ما بكيتُ على كتفك، ولا شكوتُ إليك  قسوتها، ولا قصصتُ عنها الحكايات.

ارحل يا أيلول، أنا سأبقى مشرعة نوافذ قلبي؛ ربما تشتاق إلي قبل الأوان، وقد تظهر عليك بوادر اللهفة لأي لقاء، ولا تترد يا أيلول إن هاجمك الحنين؛ فأنا وقلبي دائمًا على شرفات الانتظار.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

في الذكرى الثالثة لوفاة أخي جواد

صباح الياسمين