قصيدة بعرض البحر



قصيدة بعرض البحر
آن لهذا الحرف أن يحزن .. أن تترجل القصيدة عن جوادها وتعتكف .. أن تلتزم الصمت في زمن أصبحت الثرثرة فيه زاداً لكل فقيه ، وحجَّةً على الكَلَمِ  .
يفتش في أوراق القصيد عن قافية أخرى للشتات .. عن بحرٍ لا يأكل لحم مرتاديه .. عن خيمة لجوء لا يأوي إليها كلُّ منتحر !
زجروك وقالوا لا تكتب عن الحزن ؛ فتَهُبَّ شياطينه من حولنا وتنتشر ! أمروك ثم أمروك ثم أجبروك أن تنحني لظلالهم .. أن تستجدي غيومهم الفارغة .. أن تغازل دبيب خطواتهم بابتسامة عريضة الشفتين أو قصيدة عصماء ، أو إحدى المعلقات السبع  .
أن تستحسن كل ما تَلفَظه عيناك من رؤاهم .. وأن تغضَّ البصَرَ عن عقائدهم ، مذاهبهم ، تضاريس خرائطهم  .. وأن تُجَمِّل في أذنيك عذِبَ وكذِبَ كلامهم ، فتنظمه قصيدة ألفية ، أو ديوانٍ شعرٍ .. أو فابقَ كما أنتَ قصيدةً عرجاء ، نكرة الهوية والمولد والنسب !
لقد حضرتَ كثيراً في زمن الغياب .. أشهرت سيف خالد بن الوليد  ، وما جاد به ابن الرومي من فضائل وحكم .. رفعت يداً بالعدل ، ويداً بالحق ، فصفعوك .. كم صفعوك  فأوجعوك ؟! ثم قاموا إلى حروفك ودفنوها في لحد .
لا تلجأ إلى التاريخ .. لا تستنهض شخوصه .. لا تتلُ عليهم قصائد المتنبي .. لا تجمع دموع الخنساء في كفيِّك .. لا تذكرهم بذكاء بلقيس ، ودهاء أخوة يوسف ، لا تحدثهم عن مريم ، والعصا التي فلقت البحر ، والسفينة التي حملت من كل شيء زوجين ، لا تتلُ عليهم مزاميرك ؛ فقد يكفرونك ويقيمون عليك الحد .
لا ترحل .. لا تسحب ظلالك من ساحات الشعر .. وتهجر عُكاظ * والمَجَِنَّة * و المِربَد* .. لا تقل كم ستصمد القصيدة العزلاء بوجه السيف ، والروح المتعبة في يد الشانِق .. وأن القصيدة هي قوافٍ حرةٌ ، ليس لها أب ، أم ، أشقاء ، ظلال تنام في أفيائهم وقت الشدة وفي الرخاء ؛ فتعلن إليهم الولاء عن طيب خاطر وجهل .. وإنها حروف طائرة تحلِّق في السماء كلما هاجت ريح غادرتها إلى السماء الأعلى .
إن كان لا بدَّ من الرحيل ، ولا مفر .. إن كانت قافية من قوافي الشتات تلوح إليك أن تقترب ، إن ضاقت عليك الأرض بما رحُبَت ، وأثخنتك  جراح الرفاق ، وأعيتك مصائبهم ، وفاضت بك قنوات الصبر ، وتراءى لك البحر طوقَ نجاةٍ ، وأمواجه سلالم أمل .. فارحل بسلام .. وابَحِر .
وأنت أيها البحر كُن على غير عادتك رحيماً به .. إنه يحمل في قلبه قصيدة لا تكفر ، لا تكذب ، لا تساوم ، لا تستسلم ، لا تموت وإن طعنت في ألف مقتل ، قصيدة تمخض عباب البحر ، تصول وتجول في عرضه ، على موعد مع شتات آخر ،  إن شئت يا بحر أم لم تشأ .. فلن تغرق .

ميساء البشيتي

·                عُكاظ :  في بلاد هوازن في الحجاز قرب الطائف .. أشهر أسواق العرب الشعرية قاطبة ، وهي عامة تجارية واجتماعية وأدبية ، أثرت في لغة العرب وفي توحيد لهجاتها
·                المِربَد : ضاحية من ضواحي البصرة .. تشبه عكاظ : عامة تجارية وقومية وأدبية، حتى العصر العباسي .
·                مَجَِنَّة :  في بلاد كنانة في تهامة قرب مكة .. عامة تجارية واجتماعية وأدبية (مصغرة عن عكاظ) وهي استمرار لها، يحميها مكانها والشهر الحرام .




تعليقات


  1. قصيدة بعرض البحر
    آن لهذا الحرف أن يحزن، أن تترجل القصيدة عن جوادها وتعتكف، أن تلتزم الصمت في زمن أصبحت الثرثرة فيه زادًا لكل فقيه وحجَّةً على الكَلَمِ.
    يفتش في أوراق القصيد عن قافية أخرى للشتات، عن بحرٍ لا يأكل لحم مرتاديه، عن خيمة لجوء لا يأوي إليها كلُّ منتحر!
    زجروك وقالوا لا تكتب عن الحزن؛ فتَهُبَّ شياطينه من حولنا وتنتشر! أمروك ثم أمروك ثم أجبروك أن تنحني لظلالهم، أن تستجدي غيومهم الفارغة، أن تغازل دبيب خطواتهم بابتسامة عريضة الشفتين أو قصيدة عصماء أو إحدى المعلقات السبع.
    أن تستحسن كل ما تَلفَظه عيناك من رؤاهم، وأن تغضَّ البصَرَ عن عقائدهم، مذاهبهم، تضاريس خرائطهم، وأن تُجَمِّل في أذنيك عذِبَ وكذِبَ كلامهم فتنظمه قصيدة ألفية، أو ديوان شعرٍ، أو فابقَ كما أنتَ قصيدةً عرجاء، نكرة الهوية والمولد والنسب!
    لقد حضرتَ كثيرًا في زمن الغياب، أشهرت سيف خالد بن الوليد، وما جاد به ابن الرومي من فضائل وحكم، رفعت يدًا بالعدل ويدًا بالحق فصفعوك، كم صفعوك فأوجعوك ثم قاموا إلى حروفك ودفنوها في لحد.
    لا تلجأ إلى التاريخ، لا تستنهض شخوصه، لا تتلُ عليهم قصائد المتنبي، لا تجمع دموع الخنساء في كفيِّك، لا تذكرهم بذكاء بلقيس، ودهاء أخوة يوسف، لا تحدثهم عن مريم، والعصا التي فلقت البحر، والسفينة التي حملت من كل شيء زوجين، لا تتلُ عليهم مزاميرك؛ فقد يكفرونك ويقيمون عليك الحد.
    لا ترحل، لا تسحب ظلالك من ساحات الشعر وتهجر عُكاظ * والمَجَنَّة * والمِربَد*، لا تقل كم ستصمد القصيدة العزلاء بوجه السيف، والروح المتعبة في يد الشانِق، وأن القصيدة هي قوافٍ حرةٌ، ليس لها أب، أم، أشقاء، ظلال تنام في أفيائهم وقت الشدة وفي الرخاء؛ فتعلن إليهم الولاء عن طيب خاطر وجهل، وإنها حروف طائرة تحلِّق في السماء كلما هاجت ريح غادرتها إلى السماء الأعلى.
    إن كان لا بدَّ من الرحيل ولا مفر، إن كانت قافية من قوافي الشتات تلوح إليك أن تقترب، إن ضاقت عليك الأرض بما رحُبَت، وأثخنتك جراح الرفاق، وأعيتك مصائبهم، وفاضت بك قنوات الصبر، وتراءى لك البحر طوقَ نجاةٍ، وأمواجه سلالم أمل فارحل بسلام وابَحِر.
    وأنت أيها البحر كُن على غير عادتك رحيمًا به؛ إنه يحمل في قلبه قصيدة لا تكفر، لا تكذب، لا تساوم، لا تستسلم، لا تموت وإن طُعنت في ألف مقتل، قصيدة تمخض عباب البحر، تصول وتجول في عرضه، على موعد مع شتات آخر، إن شئت يا بحر أم لم تشأ فلن تغرق.
    * عُكاظ : في بلاد هوازن في الحجاز قرب الطائف، أشهر أسواق العرب الشعرية قاطبة، وهي عامة تجارية واجتماعية وأدبية، أثرت في لغة العرب وفي توحيد لهجاتها.
    * المِربَد : ضاحية من ضواحي البصرة ، تشبه عكاظ : عامة تجارية وقومية وأدبية، حتى العصر العباسي .
    * مَجَنَّة : في بلاد كنانة في تهامة قرب مكة، عامة تجارية واجتماعية وأدبية (مصغرة عن عكاظ) وهي استمرار لها، يحميها مكانها والشهر الحرام .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

حروف متمردة

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة