زوابع الياسمين
زوابع الياسمين
تناول رشفة أخيرة من فنجان قهوتها ، وبأصابع تنوي
الرحيل سحبَ مسبحته المسجاة على الطاولة ، ونهض كمن لسعه عقرب الوقت ، ينفض الزمان
، والمكان ، وبقايا عمر فائت .
لم تقل له شيئاً ، لكنَّ نظراتها إليه قالت
الكثير ، الكثير من الرجاء ، الكثير من التوسل ، الكثير من التذكير، بأن عليه ألَّا يغادر الفصول ، وأن يبقى ربيعاً
مزهواً ، ويبقى الاخضرار له عنوان .
عصفورة أخرى ، على غصن آخر ، تهمس إليه أيضاً
بالكثير ، الكثير من الدفء ، الكثير من الحنان ، الكثير من الأمل ، وتدعوه أن يشرب
من عينيها المزيد .
عاتبت نفسها في البدء ، ولامتها كثيراً ، كيف
تستوقفي يا نفسٌ ، من ينوي الرحيل ؟
ليست كل العصافير سواء ، هي تدرك تماماً هذا
، لكنَّها أخبرته أنه لا فرق بين عصفورة وأخرى
، كلها طيور من ورق ، لا تستقرُّ على أرضٍ ، ولا تنتمي إلى سماء ، تبني عشاً ،
وتهدم عشراً ، وتعربد كثيراً في الهواء ، فلا داعٍ لكي تحزم مشاعرك ، وتضُّمها تحت
إبطيك ، وترحل !
هو لم يصدق كلامها الأخير ، فالياسمين يشتم
رائحة العصافير وهي في باطن الكتب ، ويدرك جيداً أنه يوجد فرق شاسع بين عصفورة من ورق ، وأخرى تختال على الغصن , لكن الياسمين كعادته لا يحب الجِدال عندما ينوي الفرار .
ترجلَّ الياسمين عن مسافات كانت له ، خلع
نعليه ، وخطوات كانت له ، ومضى إلى قدره حافياً ، يحمل مسبحة تتلألأ أحجارها ، وقصيدة
فاحت من جنباتها قوافي أبي العتاهية ، وسلالاً
من عناقيد الأمل !
منىَّ الياسمين نفسه ، وحلم كثيراً ، بقهوة تنساب
من الأحداق ، تشتعل لها العينان ، تغرد فيها الهمسات ، ولا تذوب ، مهما حاصرتها ثلوج
المسافات ، وفرقت بينها أنامل وسطور ، وفي القاع حكايات خرافية تتجدد ، تطيل عمر المساء ، وتوقد لأجلها الشموع
.
أقفل الياسمين أبواب الماضي، وأحكم إغلاق
نوافذ الحنين ، لا داعٍ لتقلب الصور في الأوردة والشرايين ، فالمشوار طويل يا ياسمين ، والذكريات تقتل الشغف
المتطاير مع فراشات الحقول .
رحل الياسمين وبقايا قهوتها تستلقي على شفتيه
، وأنامل نظراتها تداعب أجفان الكرى في عينيه ، وهمسات ذائبة في فنجان الروح كانت
تتوسل بقاءه ، لكنها ذابت مع أول خيط شمس عانق كهفاً من الثلج ، ولامس مسافات من
الصقيع ، ومسح بكفٍّ دافئة زوابع الياسمين .
تعليقات
إرسال تعليق