الاختلاف ثم الخلاف ....
لا أدري لمن أوجه كلماتي هذه فهي كلمات طازجة .. ولدت بين يديِّ الآن .. لم يولد معها أي عنوان يشير إلى وجهتها .. لذلك لا أدري لمن أوجهها .. كلمات شعرت بها تنتفض في أعماقي .. تريد أن تخرج إلى السطح .. تريد أن تعانق النور الذي ينتشر في الخارج بوفرة .. فهل أمنعها ؟
قبل ردحٍ من الزمان  كنتُ تلميذة  صغيرة في صفوف الحياة .. كنتُ أصطف في طابور الصباح كما تُصف الورود في  أنية الزهر .. الطويلة ثم الأقصر ثم الأقصر إلى أن تصل البراعم إلى حافة الإناء ..
كنت أعانق الحروف بلهفة المشتاق .. وألتصق بها كما تلتصق  قطرات الندى بأوراق الياسمين عند بزوغ أول خيط من خيوط الضياء  ..
هو .. كان مثلي يصطف مع الأزهار في طابور الصباح .. كان ذكياً .. وربما كان شعلة متقدة من الذكاء .. لم يلتفت لوجودي .. وعلمت لاحقاً أنه هكذا .. جُبل على تجاهل الآخر .. لا يلتفت لوجود أحد سواه .. لا يشعر بمن يمرُّ عن جنبيه الأيمن والأيسر .. عن قصد أو عن غير قصد أيضاً ..
مرَّ على قصاصة من الورق خاصتي .. دونت فيها حروفاً من مداد الطفولة التي تتدرج بخطوات الأمل على مدارج الصبا .. ترك عليها علامة تعجب من تلك المنكهة بتوابل السخرية لتسقط كصفعة من حديد على حروفي الكريستالية ..  شعرت حينها أن هذه الأرض الصلبة اهتزت تحت أقدامي الطرية ..
 وكطفلة تزحف نحو أبواب الغد بتُؤَدَة ولين شعرت بالغبن وشعرت بالحزن وشعرت بالقهر من هذه السخرية التي لا مكان لها من الإعراب .. وكطفلة أيضاً أردتُ الانتقام ممن سبب كل هذه الجراح ..  
أخذتُ أعبث في قصاصات الورق خاصته .. أبحث عن خطأ هنا .. هفوة هناك .. أردت أن أكيل له بمكياله .. وأن أرد له الصاع صاعين ..
 لكني للأسف لم أجد !
على العكس تماماً وجدت حروفاً ساحرة  .. آسرة .. ساخرة .. نعم .. لكن كما أحب وأشتهي .. ودون أن أدري صفقت له .. ثم مددت له يد المصافحة والمسامحة والغفران ..
وأصبحنا أصدقاء .
ذات يوم قلت له معاتبة كعادتي حين أتخذ العتاب وسيلة للحوار .. لم تعد تقرأ لي .. فأجابني بنبرة لا تخلو من الغرور .. الغرور الذي كان يكسو حروفه في بعض الأحيان حين يتقمص دور الأديب الاستثنائي .. أنتِ تكتبين الخواطر .. وأنا ببساطة شديدة لا أحب الخواطر .. ثم نعتها بنعت غريب لم أسمعه إلا منه ..
استفزني جداً .. استفزني غروره الممزوج بالتعجرف والغطرسة التي لا تليق إلا بالطواويس .. وهو الذي لا يزال طيراً غضاً  .. جناحاه لا تقوى على الطيران .. وقلت له بنية صافية صادقة .. ماذا أكتب إذاً ؟
 قال .. اكتبي القصة !
وكتبتُ القصة .. وصفق لها طويلاً .. لكن شيء في أعماقي رفض مواصلة كتابة القصة .. وعدت لكتابة  الخواطر بنهم شديد .. أنا أكتب وهو يتجاهل .. أنا أكتب أكثر فأكثر وهو يتجاهل أكثر فأكثر .. حتى ضاق صدري به وبتعجرفه .. وقررت بيني وبين نفسي أن أقاطعه .. بل أكثر من ذلك بأن الطريق الذي يمرُّ منه أنا لن أعبره ..
مرت أيام .. وشهور .. وسنوات وأنا أكتب الخاطرة .. وهو يتجاهل .. ويغيظني تجاهله .. لكني لم أستطع أن أتجاهل حروفه الساخرة التي كنت قد أدمنت عليها .. و كانت تستحق مني كل هذا الإدمان ..
بعد أن شقت الخاطرة طريقها في عالم الأدب وأصبحت أدباً ساطعاً يشار إليه بالبنان .. بل أصبحت ملاذاً لكثير من الأدباء والكتاب .. أصبحتُ أنادي بملء الصوت  أنا أعشق الخاطرة .. أنا ممن عشقوا الخاطرة بصمت رهيب .. عشقتها يا قوم وعشقت حركاتها وتحركاتها وتمايلها  في قلبي كغصن الزيتون  .. عشقتها ابتداءً من تنوين الضم .. مروراً بحروف العلة .. وانحناءً عند الصحيح والمعتل .. وحين كانت تغمزني السكون بطرف عينها لأن ريحاً هوجاء عصفت بقومي .. وحين كانت تتوسلني الفواصل أن أرسمها باللون الأحمر كي لا تنقطع الأنفاس في رحلة السعي بين الحروف .. وأخيراً عشقتها أيضاً عند تكوير النقطة في آخر السطر الأخير  .
لو التقيته اليوم هل كان سيعجب بنشيدي هذا .. أم كان سيتجاهل خواطري الآن كما تجاهلها بالضبط في الماضي البعيد ؟
هل وهل وهل أسئلة كثيرة .. أتمنى لو ألقها اليوم عليه ..  لكنه رحل مع تجاهله لي .. ولم يبقَ من رائحته إلا هذا الخلاف وهذه القطيعة ..  فهل كان تجاهله لخواطري يستحق كل هذا الخلاف ؟




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

حروف متمردة

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة