سيد الصمت.. إلى أبي في ذكرى رحيله السادسة

سيد الصمت
إلى أبي في ذكرى رحيله
يا سيد الصمت، وأنا التي كنت دائمة الدهشة والاستغراب من هذا الصمت الذي كُنتَ تَغرق فيه وتُغرقنا معك، كنتُ دائمًا أتساءل في قرارة نفسي: كيف يستطيع من وُهب القدرة على ملء هذا الكون ضجيجًا وحديثًا وأصواتًا مسموعة وغير مسموعة أن يلتزم كل هذا الصمت؟
 ولكنِّي سرعان ما كنتُ أجد الإجابة على شفة السؤال: هذا الصمت جينيٌّ، خُلق معه وبه! كما خُلِقتُ أنا من براكين الثرثرة، ولم أرث عنه هذا الصمت الجليل.
بعد أن رحلت يا أبي كبرتُ أنا فجأة، بدأت أفهم كل ما كان يستعصي عليَّ فهمه مما كنتَ تحاول أن تشرحه لي؛ فالحياة أكبر معلم، تلقنك من الدروس والعبر ما يفوق طاقة الفهم ويفيض.
اليوم أدركتُ أن صمتك لم يكن جينيًا كما كنتُ أظن! وأنك ربما كنت تهوى الكلام مثلي، ربما كنتَ تريد أن تصرخ في وجوههم: هذا الطريق خاطئ لا تسلكوه، لا تضعوا أياديكم في يد الشيطان، لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، لا تنحنوا عند أول هبَّة ريح، لا تثقوا بكل أنواع المطر، لا تقبِّلوا الأرض التي لا تعرفون ترابها، لا تزرعوا الزيتون إلا في أرضه، لا تغرِّبوا الياسمين عن أمه.
كنتَ تريد قول الكثير ولكنك آثرت الصمت؛ لأنك أدركتَ باكرًا أن الغربة: ليست أن تحمل حقائبك وتترك الوطن! بل أن تبقى أنتَ ويتركك الوطن، أن يذوب من بين يديك كفقاعات الصابون، يهاجر كأسراب الحمام، يختفي كسحابة صيف.
الوطن لم يعد يسمع صراخنا يا أبي ونحن نهتف باسمه وندعو له عند كل صلاة، وعندما ينهمر المطر، وينقشع الضباب. الوطن غادرنا عند أول خيانة، وارتقى إلى السماء! وما بقيَّ على هذه الأرض هو صورة باهتة للوطن، يتنافس عليها المتنافسون، يتراكض عليها الجميع، كلٌّ يحمل سكينًا تحت إبطه؛ يريد أن يقتطع منها قطعة يخبئها في جوفه قبل أن يلمحه أخوه فيرفع سكينه في وجه ويفقأ عينه ليكون الأسبق!
الوطن ارتفع إلى السماء، وأنت يا أبي أعلنت غربتك منذ زمن طويل حين كنا صغارًا لا نفقه أن هذه الحياة أصغر من كل الصراعات، وأنها تنتهي سريعًا، وتذوب كما يذوب الوطن، وترتفع إلى السماء، وما يتبقى منها على هذه الأرض هو صور الشياطين: توسوس في صدورنا فتنفجر، تذبح دمنا وتعلقه على أعواد المشانق، تنفي مآقينا وتتاجر بما تبقى من الدمع، تمزق الكتب القديمة وتُخرجُ من أرضنًا هياكل لا نعرفها  ترسم إلينا هجرة جديدة نحوالمجهول.
أثقلت عليك يا أبي بثرثرتي، دع عنك كل هذا الحديث وأَرْقِدْ  بسلام، ولا تأتِ إليهم في المنام،
"دَعْ كُل ما ينهارُ منهارًا، ولا تقرأ عليهم أيَّ شيءٍ من كتابكْ!"*
على روحك الطاهرة، وعلى روح هذا الوطن المغدور ألف سلام.

*مديح الظل العالي محمود درويش



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة

حروف متمردة