أسرار صغيرة

أسرار صغيرة
إلى روح الشاعر الرمز " محمود درويش " .
أتيت إلى هنا .. إلى حيث كنتَ ترتشف قهوتك المرَّة على سفوح الكرمل .. وكعادتي حين تهاجمني رياح الشوق إلى حديثٍ مطول معك .. آتي إلى هنا .. وفي جعبتي الكثير من البكاء .. وبعض الكلام الممنوع من الصرف !
بعضُ الغيَّاب عادوا  من غيابٍ طويل ..
والبعض يغادر دون أن تعرف إلى أين وجهته .. وإلى أيِّ زمان أصبح الآن  ينتمي !
وحدك من لا يغادر .. ويبقى حياً في القلوب .. يشرب من عين الصباح .. ويُسقي بيمينه عكا وحيفا والكرمل وصفد .
القهوة اليوم ..  في هذا الفضاء الذي يحتوي روحك في بيت من بيوت  القصيد .. أصبحت بطعم الحنظل .. القهوة اليوم  تفتقد إلى سكر حديثك .. تفتقد إلى شهد الكلام .. فليس سواه المرار يغمر حياتنا .. كما تغمر الثلوج قمم الجبال .
نحن الآن في حالٍ لا يسرُّ الحبيب .. ولا يغيظ العدا .. نحن نمرُّ بحقبةٍ  زمنيةٍ  دخيلة على تاريخنا ..
نُخدع  في كل يومٍ  ألف مرة .. ولكن ليس لذكاء المخادع .. بل لغباء في سعة مداركنا !
نصدق الآخر .. الآخر الذي بنيَّ .. وتشكلَّ من الكذب .. والمراوغة .. ونقول لأنفسنا .. ونوهمها .. أنه
شبع كذباً .. وأنه لا بد أن يعود إلى المسار الصحيح .. فنفاجأ بأن أفكارنا وكلماتنا قد نصبت للتوِّ على أعواد المشانق !
الكلُّ يكذب .. اليوم الكلُّ يكذب .. الصغير والكبير يكذب .. الكلُّ يكذب .. لكن كذب ينمُّ عن غباءٍ  كبير..
أيام الذكاء .. والدهاء .. والخداع المبطن .. ولَّت إلى غير رجعة .. كل شيء أصبح على المكشوف .. ومع ذلك نخدع كل يوم ألف مرة !
من أين أتانا كل هذا الغباء .. وفي أيِّ دهر احتلنا .. ونحن لم نكن نعي أننا محتلون إلا  من عدو واحد ؟!
اكتشفنا اليوم .. وبالصدفة المحضة .. أننا محتلون من هذا الغباء الذي أخذ يتكاثر .. وينمو ..  ويكبر أكثر بكثير من أشجار الزيتون في بلادنا .
هل تذكر أشجار الزيتون بكرمها .. وبهائها .. وعظمتها .. اليوم بدأت تظهر إلى جانبها أشجار غباءنا !
كيف ضحك علينا الآخر .. ونال منا كل هذا ؟
كيف ترعرعت السذاجة في عقولنا وأفكارنا .. وانتشرت كما تنتشر النار في الهشيم ..  ثم تسللت  إلى جيناتنا .. وأصبحت من الصفات المكتسبة .. بل وأخذنا نورثها جيلاً بعد جيل !
أتذكر كم ركضنا في رياض المدارس ..  وحرم الجامعات .. وكم خبئنا من الكتب  تحت المعاطف .. وداخل الجيوب .. خوفاً من عيون الظلم  ..
هم اليوم يخبئون الرغيف  !
فالجوع قد احتل البلد ..  والويل لأمة تكالبت عليها شتى صنوف الظلم والقهر ..  فنسيت عدوها الأوحد .. الذي تفشى كالسرطان في الكبد  !

وعكا .. لن أكلمك عن عكا أو الكرمل أو صفد ..  فأنت أدرى الناس بهم .. وكيف مزقوا جدائلهم العربية  .. ووزعوها على الغرباء .. وما لبى نداءهم أحد .. وما التفت إليهم من ملتفت .

لو بقيت معنا إلى اليوم لرأيت كم سيفٌ سيشهر في وجهك .. ويطالبك بالرحيل عن كل معتقد ..
وما أكثر السيوف التي تدك خاصرة الوطن الكبير اليوم .. سيوف التطرف .. والتشهير .. والتكفير .. والتعريب .. والتغريب .. ......
هو أيضاً مزقوا جدائله كما جدائل عكا والجليل والأقصى وأبواب القدس السبع  ..
ولكن جدائله لم تعطَ للغريب .. بل ألقوا بها إلى هامش التاريخ .. فلن تفيد أحداً ..
هذا التاريخ الطويل العريض المشع البراق الذي طالما غنيته في أشعارك .. محوه .. مزقوه .. زيفوه ..
نالوا منه .. ووضعوا عوضاً عنه تاريخاً آخر .. غير مقروء .. غير مفهوم .. غير منتمي لأحد .
نحن اليوم يا محمود  لم نعد نخبىء الكتب داخل معاطفنا .. بل أصبحنا نخبىء كسرة الخبز!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة

حروف متمردة