على شرفات الذبول




على شرفات الذبول 


تمرُّ الأعوام إثر الأعوام , خالية من علامات الربيع , يقفز فيها القحط , والجدب , فيحتل كل العناوين !


وأنا وردة ذابلة في أصيص , تراود عينيِّها المثقلتين بالنعاس , أن ترفع رأسها قليلاً , نحو السماء الحبلى بالأشعار , وأناشيد الفرج , والأمل البعيد .


أفتح الحروف , أحاول أن أستنشق منها هواءً نقياً , أحاول أن أعبرَّ دهاليزها , أن أصل قلب الذكريات , أعود إلى حيث تركت مرابع الطفولة قبل ألف عام , أبحث عن ورقة قديمة تركت فيها عنواني للريح , أبحث عن قلمي المكسور , هل هو مع صديقتي في الدرج المقابل ؟


أفتح خزنتي وما تحتويه من أسرار , أجد لعبة قديمة جداً كنتُ أتسلى بها في أوقات الصبا , كان اسمها يتردد دائماً على طرف لساني , أما الآن فلم أعد أذكره , فالنسيان قد يزحف مبكراً على أوراق الورد , فيكسوها برذاذ الندى , ليصبح الماضي ليس بعيداً , لكنه ليس صافياً كالمرآة !


أمدُّ رأسي قدر المستطاع في بئر الماء , هل ما يزال يحتفظ لنا ببعض الماء , أم أنه قد جف ماؤه بعد أن هاجمه صيف قائظ , وحط رحاله عند الباب , فهربت العصافير التي كانت تتعلم فنَّ مغازلة عيون النهار ؟


وأشجار الورد , كم قالوا أنها لا تنفك تسألهم عني , لا يزال يتفتح وردها كل يوم بألوان الزهو , يبحث عني في حديقة البيت , يسأل ورد الجوار , وأنا أسافر في غربة طويلة , أقضي فيها نهاري مع الملل , ألمع أصيصاً فارغاً , وأصيصاً آخر يحوي نبتة ذابلة , وزهرة برية تراود نفسها على الانتحار !


هل يكفي أن أمنحهم بعض أنفاسي كي يبقوا على قيد الحياة , ولمن يعيش الورد , ولمن يبقى يرفرف على الغصون ؟


اقتلعته بأنانية مفرطة من الجذور , أخذته من أحضان تربته , أنزلته عن أكتاف أمه , وحملته معي , كي يؤنسني في غربتي , فذبلَّ معي , ولم نعد أنا وهو قادرين على الغناء من جديد .


قدمت له قهوة الصباح , فرفضها بأدبٍ خجول , قال الورد , لا أشرب القهوة , أعيش فقط على قطرات الحب , فهل لديك منها المزيد ؟


حتى العصافير في الخارج أصبحت شرسة , ربما لأنها تستمع إلى نشرات الأخبار المتسربة من مذياعي العتيق , لم أشأ أن أمنعها , فهذا السرُّ لم يعد خافياً على أحد !


وما أخفيه اليوم من أخبار الوطن , تفضحه إذاعات الجوار , وتفشيه بين الأحبة , والأعداء , وقطاع الطريق .


وأنا وردة ذابلة في أصيص , أراود نفسي الممتلئة بالهزائم , والمثخنة بالانكسارات , على فرصة أخيرة في البقاء , فأبحث في عيون الغد , عن بصيص أمل أكمل فيه الطريق .


أنظر في عيون الأطفال , فأراها مبهمة , غير مقروءة , فأدرك أن الحليب كان مغشوشاً , وأن الطفولة ضاعت بين جشع التجار , وفقر ذات الحال . 


شوك الصبار نبت , وتنامى على الشرفات , أقطف منه كل صباح , وأقرأ عليه تعويذات حارة , وأدعو له بطول البقاء , فالورد في الأصيص ذابل , وعلى الشرفات يتأرجح بين الجفاف , وبين الذبول .


ونشرة الأخبار تجذبُ إليها العصافير الغِرّةّ , فتصبح غريبة , شرسة , تدقُّ بمناقير الغلِّ زجاج الأيام , أخشى أن أفتح لها النوافذ , فتكون هي الأخرى قد أصبحت من رفاق السوء , لا تنعق إلا بالخراب , ولا تأتي إلا بالدمار الأكيد !


فأعود , وأحتضن الصبَّار بين ذراعيَّ , وأدعوه كي يبقى إلى جانبي , إلى أن أتجاوز هذا الذبول , وألج ربيعاً آخر ليس فيه إلا الورد والبلابل ورفاق الدحنون .




تعليقات

  1. على شرفات الذبول
    تمرُّ الأعوام إثر الأعوام خالية من علامات الربيع، يقفز فيها القحط والجدب فيحتل كل العناوين! وأنا وردة ذابلة في أصيص تراود عينيِّها المثقلتين بالنعاس: أن ترفع رأسها قليلًا نحو السماء الحبلى بالأشعار، وأناشيد الفرج، والأمل البعيد.
    أفتح الحروف؛ أحاول أن أستنشق منها هواءً نقيًا، أحاول أن أعبرَّ دهاليزها، أن أصل قلب الذكريات...أعود إلى حيث تركت مرابع الطفولة قبل ألف عام، أبحث عن ورقة قديمة تركت فيها عنواني للريح، أبحث عن قلمي المكسور... هل هو مع صديقتي في الدرج المقابل؟!
    أفتح خزنتي وما تحتويه من أسرار فأجد لعبة قديمة جدًا كنتُ أتسلى بها في أوقات الصبا... كان اسمها يتردد دائماً على طرف لساني... أما الآن فلم أعد أذكره؛ فالنسيان قد يزحف مبكرًا على أوراق الورد فيكسوها برذاذ الندى ليصبح الماضي ليس بعيدًا... لكنه ليس صافيًا كالمرآة!
    أمدُّ رأسي قدر المستطاع في بئر الماء: هل ما يزال يحتفظ لنا ببعض الماء؟ أم أنه قد جف ماؤه بعد أن هاجمه صيف قائظ وحط رحاله عند الباب؛ فهربت العصافير التي كانت تتعلم فنَّ مغازلة عيون النهار.
    وأشجار الورد، كم قالوا أنها لا تنفك تسألهم عني، ولا يزال يتفتح وردها كل يوم بألوان الزهو، يبحث عني في حديقة البيت، يسأل ورد الجوار... وأنا أسافر في غربة طويلة: أقضي فيها نهاري مع الملل، ألمع أصيصًا فارغًا، وآخر يحوي نبتة ذابلة وزهرة برية تراود نفسها على الانتحار!
    هل يكفي أن أمنحهم بعض أنفاسي كي يبقوا على قيد الحياة؟ ولمن يعيش الورد؟ لمن يبقى يرفرف على الغصون؟
    اقتلعته بأنانية مفرطة من الجذور، أخذته من أحضان تربته ، أنزلته عن أكتاف أمه وحملته معي؛ كي يؤنسني في غربتي؛ فذبلَّ معي... ولم نعد أنا وهو قادرين على الغناء من جديد.
    قدمت له قهوة الصباح فرفضها بأدبٍ خجول؛ قال الورد: لا أشرب القهوة... أعيش فقط على قطرات الحب، فهل لديك منها المزيد؟
    حتى العصافير في الخارج أصبحت شرسة؛ ربما لأنها تستمع إلى نشرات الأخبار المتسربة من مذياعي العتيق، لم أشأ أن أمنعها؛ فهذا السرُّ لم يعد خافيًا على أحد! وما أخفيه اليوم من أخبار الوطن تفضحه إذاعات الجوار، وتفشيه بين الأحبة، والأعداء، وقطاع الطريق.
    وأنا وردة ذابلة في أصيص أراود نفسي الممتلئة بالهزائم، والمثخنة بالانكسارات، على فرصة أخيرة في البقاء؛ فأبحث في عيون الغد عن بصيص أمل أكمل فيه الطريق، أنظر في عيون الأطفال فأراها مبهمة، غير مقروءة؛ فأدرك أن الحليب كان مغشوشًا، وأن الطفولة ضاعت بين جشع التجار وفقر ذات الحال.
    شوك الصبار نبت وتنامى على الشرفات، أقطف منه كل صباح، أقرأ عليه تعويذات حارة، أدعو له بطول البقاء؛ فالورد في الأصيص ذابل، وعلى الشرفات يتأرجح بين الجفاف وبين الذبول.
    ونشرة الأخبار تجذبُ إليها العصافير الغِرّةّ فتصبح غريبة، شرسة، تدقُّ بمناقير الغلِّ زجاج الأيام؛ أخشى أن أفتح إليها النوافذ فتكون هي الأخرى قد أصبحت من رفاق السوء... لا تنعق إلا بالخراب، ولا تأتي إلا بالدمار؛ فأعود وأحتضن الصبَّار بين ذراعيَّ وأدعوه كي يبقى إلى جانبي إلى أن أتجاوز هذا الذبول، وألج ربيعًا آخر ليس فيه إلا الورد، والبلابل، ورفاق الدحنون.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

حروف متمردة

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة