علب الأيام




هذه الخاطرة إهداء إلى روح أخي جواد البشيتي الذي صادف مرور شهر على وفاته.
ملاحظة تم تعديل الخاتمة بعد رحيله... لروحه السلام والطمأنينة

عُلب الأيام

اليوم أَتم الثالثة والخمسين من عمره، سحب نفسًا طويلًا
من سيجارته وأخذ رشفة عميقة من فنجان القهوة المرَّة التي أعتاد أن يشربها معظم أيام  حياته... حياته التي هو الآن بصدد فتح عُلًبِها علبةً علبة  ليتذكر ما خبأته الأيام الماضية فيها، هذه أخر علبة... هاهو الآن يقطف فيها  ثمار الوحدة والفراغ.
العلبة قبل الأخيرة: علبة الأمل: مرحلة الصراع مع القليل من الأمل للبدء في حياة جديدة بعد العودة من تلك العاصمة الأوروبية الغارقة في صمتها وسكونها حد الموت، قضى فيها من الأعوام الطويلة ما قضى دون الوصول إلا إلى الملل القاتل والوحدة الفظيعة التي كانت كل يوم تُفجِّر فكرة المغامرة بالعودة إلى أقرب نقطة إلى أرض الوطن ومهما كلف الثمن!
العلبة ما قبل قبل الأخيرة: علبة غزة:  مرحلة السلام مع إسرائيل.
ها هي غزة الحبيبة القابعة على البحر تزدهر من جديد لتحتل الصدارة في أخبار العالم، يتسابق الجميع في العودة إلى تلك الرقعة التي باتت مطمع الجميع ومحط كل الأنظار... لكن (الختيار) رحمة الله عليه لم يستطع السماح له بالعبور معهم إلى غزة واللحاق بالركب لإكمال مسيرة النضال  كما في تونس الخضراء.
العلبة السابقة: علبة تونس: تونس كانت بلدًا جميلة، أعطتهم كل شيء... لكن الاستمرار بالمعيشة فيها كان صعبًا؛ أجوائها مختلفة عن لبنان؛ البلد التي ألفها رفاق النضال وأحبوها كما لم تحَبُّ بلد قط!
العلبة التي تسبق علبة تونس:علبة لبنان: كم كان الالتفاف في لبنان جميلًا، مميزًا، حميميًا، ممتلئًا بالتضحيات والبطولات وشتى أنواع النضال إلى جانب (الختيار)
وكم كان مؤلمًا ومبكيًا تذكر تلك اللحظة الأليمة، لحظة مغادرة فصائل المقاومة العاصمة بيروت إلى تونس، وتلك السفينة التي أقلت المقاومة، وجراحهم، وغربتهم من جديد.
مضى عليه في بيروت زمن قبل أن يستقر فيها بعد رحلة العذاب في مشارق الأرض ومغاربها، بيروت كانت تعني له الكثير، وتذكرنه بالعلبة هذه التي تعني لي بداية الحياة بالنسبة إلى ذلك الشبل الفلسطيني، الذي لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره بعد حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقاله إثر تنفيذه لتلك العملية الفدائية التي تسببت بإصابته هو بإصابات عديدة نجا منها فيما بعد  واستشهاد زميله  في العملية نفسها أثناء  تفجيرهما  لذلك الفندق الإسرائيلي ( الإمبسادور) فتم أسره واعتقاله لمدة أربعين يومًا_ المدة المسموح فيها لاعتقال طفل_  وعانى في الأسر والاعتقال والسجن  شتى أنواع العذاب، ثم نفي خارج الوطن فلسطين، وأُبعد حسب قوانين العدو المحتل إلى دولة عربية مجاورة ... لأن القوانين الإسرائيلية حينها لم تكن بهذه الشراسة بعد... أو لم تكن لتجرؤ على أكثر من هذا.
وترتب فيما بعد نفيُّ أسرته بالكامل إلى تلك الدولة المجاورة؛ ليمنعوا وبشكل نهائي من حق العودة إلى تلك الديار، إلى الموطن الأم، بيت الطفولة والأسرة.
الآن، وقد رحل (الختيار) وتفرق الجميع، وعودة مرة أخرى إلى العلبة الأخيرة: وحيدًا يتذكر سنوات النضال، الكفاح، الأسر، التشرد، الغربة، الانتظار على أبواب القدس الخالدة... لن يثنيه شيء عن فكرة العودة لو بعد ألف عام.
ولم يعد... كان الموت أسبق لتبقى فلسطين بعده مكلومة، جريحة، مسلوبة... يترجل فارسها ويسلم الراية لبقية الرفاق.
#جواد_البشيتي



عُلب الأيام

اليوم أتم الثالثة والخمسين من عمره ، سحب نفساً طويلاً من سيجارته , وأخذ رشفة عميقة من فنجان القهوة المرَّة التي أعتاد أن يشربها معظم أيام  حياته , حياته التي هو الآن بصدد فتح عُلًبِها علبةً علبة  ليتذكر ما خبأته الأيام الماضية فيها ..
هذه أخر علبة ، وهاهو الآن يقطف فيها  ثمار
الوحدة والفراغ .
العلبة قبل الأخيرة .. عندما كان هناك صراع قليل مع الأمل للبدء في حياته من جديد .. بعد العودة من تلك العاصمة الأوروبية الغارقة في صمتها , وسكونها حد الموت ، قضى فيها من الأعوام الطويلة ما قضى دون الوصول إلا  إلى الملل القاتل , والوحدة الفظيعة , التي كانت كل يوم تُفجِّر فكرة المغامرة بالعودة إلى أقرب نقطة إلى أرض الوطن , ومهما كلف الثمن !
العلبة ما قبل قبل الأخيرة .. ومرحلة السلام مع إسرائيل .. وها هي غزة الحبيبة القابعة على البحر تزدهر من جديد لتحتل الصدارة في أخبار العالم , ويتسابق الجميع في العودة إلى تلك الرقعة التي باتت مطمع الجميع , ومحط كل الأنظار، لكن (الختيار ) رحمة الله عليه  .. لم يستطع أن يسمح لي بالعبور معهم  , واللحاق بالركب ,  لنكمل ما بدأناه سوياً  , كما كنا في المرحلة السابقة في تونس الخضراء .
ولنفتح العلبة السابقة ..  تونس كانت بلداً جميلة .. أعطتنا كل شيء  , ولكن الاستمرار بالمعيشة في تونس كان صعباً بعض الشيء , فجُّوها مختلف جداً عن الجو في لبنان تلك البلد التي ألفناها وأحببناها كما لم نحبّ بلداً قط .
 ونفتح العلبة التي تسبق علبة تونس .. كم كان التفافنا في لبنان جميلاً  , ومميزاً , وحميمياً , وكان مليئاً بالتضحيات , والبطولات ,وشتى أنواع النضال .. وكنا إلى جانب (الختيار)  , وهو إلى جانبنا  ,وما زالت عيني تدمع كلما تذكرت تلك اللحظة الأليمة , لحظة مغادرة  فصائل المقاومة العاصمة بيروت إلى تونس , وتلك السفينة التي أقلتنا , وأقلت جراحنا , وغربتنا من جديد .
 مضى عليَّ في بيروت زمن قبل أن أستقر فيها بعد رحلة العذاب في مشارق الأرض ومغاربها ، بيروت كانت تعني لي الكثير , وتذكرني بالعلبة هذه , التي تعني لي بداية الحياة بالنسبة إلى ذلك الشبل الفلسطيني .. الذي لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره بعد .. حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقاله  إثر تنفيذه لتلك العملية الفدائية , التي تسببت بإصابته هو بإصابات عديدة نجا منها فيما بعد ,  واستشهاد زميله  في العملية أثناء  تفجيرهما  لذلك الفندق الإسرائيلي ( الإمبسادور) ...فتم أسره , واعتقاله لمدة أربعين يوماً .. كانت المدة المسموح فيها لاعتقال طفل ! عانى في الأسر والاعتقال والسجن  شتى أنواع العذاب , ثم نفي خارج الوطن فلسطين , وأُبعد حسب قوانين العدو المحتل إلى دولة عربية مجاورة ... لأن القوانين الإسرائيلية حينها لم تكن بهذه الشراسة بعد , أو لم تكن لتجرؤ على أكثر من هذا ...
وترتب فيما بعد نفيُّ أسرته بالكامل إلى تلك الدولة المجاورة ، ليمنعوا , وبشكل نهائي , من حق العودة إلى تلك الديار , وإلى الموطن الأم ,, وبيت الطفولة والأسرة .
والآن ... وقد رحل   (الختيار )  ... وتفرقنا جميعاً !!
وجدتُ نفسي أمام العلبة الأخيرة ... بقيتُ وحدي أتذكر سنوات النضال , والكفاح , والأسر , والتشرد , والغربة , والانتظار  على أبوابك أيتها القدس الخالدة ,
ولن يثنيني شيء عن فكرة العودة , ولو بعد ألف , ألف عام ....
وسأعود .


تعليقات

  1. علب الأيام ... إهداء إلى روح أخي الحبيب جواد البشيتي

    علب الأيام .. عرب كندا .. العدد رقم 40 ... صفحة رقم 15

    مع جزيل الشكر والتقدير لعرب كندا والقائمين عليها



    https://www.arabcanadanews.ca/magazine_40/mobile/index.html?fbclid=IwAR33CoFvVq1QEswFim26a5isehwNVJIx_NSiTXB7vH5tjUkhrc2JyFfNmn8

    ردحذف
  2. هذه الخاطرة إهداء إلى روح أخي جواد البشيتي الذي صادف مرور شهر على وفاته.
    ملاحظة تم تعديل الخاتمة بعد رحيله... لروحه السلام والطمأنينة




    عُلب الأيام


    اليوم أَتم الثالثة والخمسين من عمره، سحب نفسًا طويلًا
    من سيجارته وأخذ رشفة عميقة من فنجان القهوة المرَّة التي أعتاد أن يشربها معظم أيام حياته... حياته التي هو الآن بصدد فتح عُلًبِها علبةً علبة ليتذكر ما خبأته الأيام الماضية فيها، هذه أخر علبة... هاهو الآن يقطف فيها ثمار الوحدة والفراغ.
    العلبة قبل الأخيرة: علبة الأمل: مرحلة الصراع مع القليل من الأمل للبدء في حياة جديدة بعد العودة من تلك العاصمة الأوروبية الغارقة في صمتها وسكونها حد الموت، قضى فيها من الأعوام الطويلة ما قضى دون الوصول إلا إلى الملل القاتل والوحدة الفظيعة التي كانت كل يوم تُفجِّر فكرة المغامرة بالعودة إلى أقرب نقطة إلى أرض الوطن ومهما كلف الثمن!
    العلبة ما قبل قبل الأخيرة: علبة غزة: مرحلة السلام مع إسرائيل.
    ها هي غزة الحبيبة القابعة على البحر تزدهر من جديد لتحتل الصدارة في أخبار العالم، يتسابق الجميع في العودة إلى تلك الرقعة التي باتت مطمع الجميع ومحط كل الأنظار... لكن (الختيار) رحمة الله عليه لم يستطع السماح له بالعبور معهم إلى غزة واللحاق بالركب لإكمال مسيرة النضال كما في تونس الخضراء.
    العلبة السابقة: علبة تونس: تونس كانت بلدًا جميلة، أعطتهم كل شيء... لكن الاستمرار بالمعيشة فيها كان صعبًا؛ أجوائها مختلفة عن لبنان؛ البلد التي ألفها رفاق النضال وأحبوها كما لم تحَبُّ بلد قط!
    العلبة التي تسبق علبة تونس:علبة لبنان: كم كان الالتفاف في لبنان جميلًا، مميزًا، حميميًا، ممتلئًا بالتضحيات والبطولات وشتى أنواع النضال إلى جانب (الختيار)
    وكم كان مؤلمًا ومبكيًا تذكر تلك اللحظة الأليمة، لحظة مغادرة فصائل المقاومة العاصمة بيروت إلى تونس، وتلك السفينة التي أقلت المقاومة، وجراحهم، وغربتهم من جديد.
    مضى عليه في بيروت زمن قبل أن يستقر فيها بعد رحلة العذاب في مشارق الأرض ومغاربها، بيروت كانت تعني له الكثير، وتذكرنه بالعلبة هذه التي تعني لي بداية الحياة بالنسبة إلى ذلك الشبل الفلسطيني، الذي لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره بعد حيث قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باعتقاله إثر تنفيذه لتلك العملية الفدائية التي تسببت بإصابته هو بإصابات عديدة نجا منها فيما بعد واستشهاد زميله في العملية نفسها أثناء تفجيرهما لذلك الفندق الإسرائيلي ( الإمبسادور) فتم أسره واعتقاله لمدة أربعين يومًا_ المدة المسموح فيها لاعتقال طفل_ وعانى في الأسر والاعتقال والسجن شتى أنواع العذاب، ثم نفي خارج الوطن فلسطين، وأُبعد حسب قوانين العدو المحتل إلى دولة عربية مجاورة ... لأن القوانين الإسرائيلية حينها لم تكن بهذه الشراسة بعد... أو لم تكن لتجرؤ على أكثر من هذا.
    وترتب فيما بعد نفيُّ أسرته بالكامل إلى تلك الدولة المجاورة؛ ليمنعوا وبشكل نهائي من حق العودة إلى تلك الديار، إلى الموطن الأم، بيت الطفولة والأسرة.
    الآن، وقد رحل (الختيار) وتفرق الجميع، وعودة مرة أخرى إلى العلبة الأخيرة: وحيدًا يتذكر سنوات النضال، الكفاح، الأسر، التشرد، الغربة، الانتظار على أبواب القدس الخالدة... لن يثنيه شيء عن فكرة العودة لو بعد ألف عام.
    ولم يعد... كان الموت أسبق لتبقى فلسطين بعده مكلومة، جريحة، مسلوبة... يترجل فارسها ويسلم الراية لبقية الرفاق.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لروحك السلام أخي الحبيب جواد البشيتي

سَوْرَةُ الأبجدية الضالة

حروف متمردة